لطالما كانت وسائل الاتصال، و تكنولوجيا المعلومات سلاحًا ذا حدين، يتحدد تأثيرها على الشخص بطريقة استعماله لها، و لعل الوسيلة التي باتت ترافقنا في كل وقت وفي أيّ مكان، هي الهاتف النقال، أو كما يحلو للشباب تسميته (الموبايل)، الذي بات يستحيل على أيٍّ منَّا، أن يخطو خطوة دون أن يحمله معه، ويرتبك شديد الارتباك لو نسيه في البيت أو مكان العمل، وقد يكون وقع الكارثة أعظم إذا ضاع منه.
.
وفي أيامنا المتعولمة، بات للأطفال أيضًا هاتف نقال، بدعوى الاطمئنان عليهم مثلًا، و هم راجعون أو ذاهبون إلى المدرسة – على أساس على أيامنا، أهالينا كانوا سامحين فينا- ما علينا.
المدهش، بل والغريب في الأمر، كيف تمكن هذا الجهاز الصغير، المليء بالأسرار والخبايا، من تغيير عادات كثيرة في البشر، فبعد أن كانت أسرار البيوت و المسائل الشخصية من مشاريع، و مشاكل، وحكاوي ... من بين الخصوصيات التي تتميز بحرمة خاصة جدًّا، ولا يمكن بأيِّ حالٍ من الأحوال الحديث عنها أمام أيٍّ كان ... و يضع لها الجميع خطوطا حمراء حتى لا يتخطاها أحد، هاهي اليوم تعرض على الملأ، فلم يصبح الناس يتحرجون من مناقشة أدق تفاصيل حياتهم و مشاكلهم الشخصية أمام مسمع و مرأى العامة، سواءً في الشارع أو الحافلات، أو أماكن العمل، ببساطة تنطبق عليهم الجملة : في الأماكن العامة يحلو الحديث و السمر. و كل هذا ناتج عن الاستعمال الفوضوي وغير الرشيد للهاتف النقال.
فمن منَّا، لم يصادفه أن ركب الحافلة أو(الأوتوبيس) و الصداع ينخر رأسه، ليفاجأ بشخص يروي حيثيات حياته بجميع تفاصيلها، ودون الشعور بأي حرج، وتجده يتحدث بكل طلاقة دون اللجوء إلى خفض صوته، و لعلك تلتقي أمثال هذا الشخص يوميًّا، فهذا مشكلته مع مديره في العمل، وذاك مشكلته مع زوجته، و تلك تسترسل في إطلاق قهقهات متواصلة، و كأن من يكلمها لا يكف عن قول النكات... بل وقد يصل الأمر لأبعد من ذلك، عندما تصادف شابًّا في مقتبل العمر، وقد رنَّ هاتفه النقال، ليرد بأنَّ الرقم خاطئ، لكنك تندهش من مواصلته الكلام مع الشخص المتصل، و سرعان ما تكتشف أنها إحدى الفتيات -من طريقة كلامه- ليدخل الاثنان في حديث مفتوح يسمعه و يفهمه كل حملتهم الصدفة، ليكونوا شاهدين على هذه المكالمة، وتدريجيًّا تلحظ تحوّلًا في الحديث الذي بدأ بخطأ في الرقم، ليصير غزلًا صريحًا يثني فيه على صوتها الدافئ و كلامها الرقيق، و ينتهي بضرب موعد للقاء – خطأ، فكلام، فموعد- دون أدنى نوع من الحرج من الموجودين الذين أطلقوا العنان لآذانهم و هم يستمعون لهذا المسلسل الإذاعي – باعتبار أنهم يستمعون فقط- الذي يبث إحدى حلقاته على الهواء مباشرةً.
مغامرات الشباب مع الموبايل، لا تنتهي عند هذا الحد، فقد تصادف و أنت في الشارع، أو في طريقك للعمل أو البيت... رجلًا أو امرأة في قمة الغضب و في حالة هستيريا لا يحسد عليها ، لتكتشف أنَّ ثمة نزاعًا في الموضوع، أحد أطرافه المتحدث إليه عبر النقال، و رحماك يا الله، عندما تسمع عبارات السبِّ و الشتم و قد انطلقت لتغمر الشارع بوقعها العكر، الأمر الذي قد يقود أحدًا ممن تضطره نخوته للتدخل بطلب اخفاض الصوت و الكف عن الكلام البذيء احترامًا للنَّاس.
ربَّما، تذكرت بدورك أحد هذه المغامرات، التي قد مررت بها شخصيًّا -فما أكثر هؤلاء- و من المؤكد أنك استغربت تصرف من صادفتهم، أو على الأقل تساءلت كيف يستطيع هؤلاء الأشخاص البوح بجميع أسرارهم، و كشف مشاكلهم أمام الملأ؟ و الإجابة ستكون أغرب، إذ أنَّ إحدى الفتيات اللواتي سألناهن عن طريقة حديثهنّ في الهاتف - والتي كانت تتخللها قهقهات متقطعة و كلام تغلفه مختلف الصور البيانية والبلاغية- دون أن يحمر وجههن خجلًا، فقد ردت إحداهنّ و ببساطة شديدة – مستغربة اندهاشنا- أنها لا تأبه لأحد ممّن سمعها أو يسمعها، فهي لا تعرف أي أحد منهم، و بالتالي لن يستطيع أحد إيذاءها، حتى إن سمعوا بسرّها، و كأن المشكلة تكمن في مجرد الإيذاء لا غير...!!
.
هذه التصرفات التي باتت واقعًا معاشًا، و سلوكا يوميًّا للكثيرين، قد تمرّ مرور الكرام بالنسبة لأشخاص كثُر، ولكنها قد تثير في نفوس أشخاص آخرين الكثير من التحفظات، خاصة إذا كان محتوى هذه المكالمات لا يتلاءم مع خصوصية الأماكن العامة، و مجتمع من المعروف، أو من المفترض أن يكون محافظًا.
هناك تعليقان (2):
tout est dans l'éducation, les nouvelles technologies sont bénéfiques il faut juste savoir les utiliser
صدقتَ أخي خير الدين، التربية أهم عامل
ووسائل الاتصال والتكنولوجيات الحديثة سلاح ذو حدين، يجب معرفة استخدامه.
أشكر لكَ مرورك من هنا، وحروفك التي تركتها على متصفحي
إرسال تعليق